اللهم صل على محمد وآل محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
الانسان لم يكن حاضرا ولا شاهدا على خلق أبيه -آدم عليه السلام –فهو شيء غيبي عنا نحن أبنائه . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول,
ولكن لنا أن
نسأل...عندما نقرأ ..ونسمع أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام وهو
يصف كيفية خلق آدم عليه السلام , نرى أنه عليه السلام ينقل عن عالم غيبي
عنا وكأنه كان حاضرا في ذلك العالم !,فهل كان كذلك؟
قد أجاب الإمام ( عليه السلام ) عن ذلك بقوله : « ليس هو بعلم غيب ، و إنما هو تعلّم من ذي علم
» . يريد ( عليه السلام ) ان مصدر علمه هو رسول اللّه ( صلى الله عليه
وآله ) عن جبريل عن اللّه سبحانه الذي لا خالق إلا هو . . و من أجل هذا
تكلم الإمام ( عليه السلام ) بثقة و يقين ، لا بحدس و تخمين . . كيف ؟ و هو
القائل : « لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كل ما تعلم ، فان اللّه فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة » . و كل الناس يعلمون ان عليا تنسجم أقواله مع أفعاله ، و أفعاله مع دينه و ضميره .
ونحن نتجول في
رياض نهج البلاغه لابد لنا من الوقوف على بعض عجائب خطبها ,لنتزود من
قطوفها الدانيه, ونرتوي من عذب أنهارها ,ونقتبس من أنوارها ,ونبتهج بجمالها
ورونقها ,روضة أشجارها الفصاحة وانهارها البلاغة وسمائها الحكمة وأرضها
الايمان,
خطب بليغه ولغة فصيحه واقوال حكيمه, و هي من درر كلام مولانا أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام ,
وقفتنا هنا في
الروضة الاولى من هذه الرياض التي يصف فيها مولانا أمير المؤمنين عليه
السلام صفة خلق آدم عليه السلام من الخطبه الاولى في نهج البلاغه,يقول عليه
السلام,
ثمّ جمع سبحانه
من حزن الأرض و سهلها ، و عذبها و سبخها ، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت . و
لاطها بالبلّة حتّى لزبت . فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول و أعضاء و
فصول . أجمدها حتّى استمسكت ، و أصلدها حتّى صلصلت . لوقت معدود . و أمد
معلوم . ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها . و فكر يتصرّف
بها ، و جوارح يختدمها ، و أدوات يقلّبها ، و معرفة يفرق بها بين الحقّ و
الباطل و الأذواق و المشامّ و الألوان و الأجناس . معجونا بطينة الألوان
المختلفة ، و الأشباه المؤتلفة ، و الأضداد المتعادية و الأخلاط المتباينة .
من الحرّ و البرد . و البلّة و الجمود .
افتتح الإمام (
عليه السلام ) خطبته هذه بحمد اللّه و تمجيده ، و نفي صفات المصنوعين عنه ،
ثم أشار الى مبدأ الخلق ، و أصل الكون المسبوق بالعدم ، ثم الى خلق
الملائكة . . و هو يشير الآن الى أصل الانسان الأول ، من أي شي ء خلق ؟و
كيف تم خلقه ؟ و كما تكلم الناس عن الكون و حقيقته و أصله و عمره و أطواره.
فقد
تكلموا أيضا عن أصل الانسان و كنهه و تطوره ، و كم مضى عليه من السنين في
هذه الأرض ؟ و وضعوا في ذلك الكتب و الأسفار ، و مع هذا لم يعرفوا عنه إلا
القليل . . و صدق من قال : « ان علم الانسان بنفسه ما يزال محدودا ، و ربما
استطاع أن يعرف عن غيره من الكائنات أكثر مما يعرفه عن أسرار نفسه » .
و لنفترض و ان بعد الفرض ان الانسان يستطيع أن يعرف حقيقته على أتمها جسما وروحا
فإنه لا يستطيع و لن يستطيع أن يعرف كيف تم خلق أبيه الأول . . و ان ادعى
ذلك مدعى طالبناه بالدليل و سألناه : هل دليله التجربة ؟
و بالبداهة ان
التجربة تعتمد و تقوم على المجهر و التحليل الكيماوي ، و أين هو الانسان
الأول حتى يراه الباحثون على شريحة المجهر ، أو يحللوا في مختبراتهم أعضاءه
و العناصر التي تألفت منها هذه الأعضاء . . أو ان المدعي يستدل بالعقل . .
و ليس من شك ان معرفة العقل بأصل الانسان و كيف تم خلقه تماما كمعرفته
باسم و الديه و حسبه و نسبه ، و بقامته طولا و عرضا . أو يستند المدعي الى
الحفريات . . و قد أعلن أهل الاختصاص أن أحدث الحفريات تقول : ان الانسان
كان موجودا على وجه هذه الأرض منذ مليون سنة على التقريب . . و بالبداهة ان
هذا شي ء ، و أصل الانسان شي ء آخر . . و حتى الآن ما تجرأ أحد على الزعم
بأنه عثر على رفات آدم أبي البشر و حطامه . . أو أن المدعي يعتمد النقل و
الرواية . . و الشرط الأول في النقل أن يروي ما رأت العينو شاهدت ، و أية عين رأت خلق جدها و أبيها؟ ، بل أية عين رأت خلق نفسها بالذات ؟ (أشهدوا خلقهم) 19 الزخرف » .
و إذن لا سبيل على الاطلاق الى العلم بأصل الانسان الأول ، و كيف خلق إلا بالوحي من خالق الانسان ،
و على هذا الوحي وحده اعتمد الإمام ( عليه السلام ) عن خلق الانسان و أصله .
و الانسان سلسلة
متصلة الحلقات ، تبتدى ء بآدم أبي البشر ، و لا ندري بأي مولود تنتهي . . و
لا يختلف مؤمن و جاحد على ان الانسان بجميع أفراده ، من كان منه و من يكون
، هو من تربة هذه الأرض و مائها و هوائها ، و انه يعيش عليها كضيف مؤقت ،
ثم يعود اليها لا محالة . . أبدا لا خلاف في شي ء من ذلك ،
و إنما الخلاف : هل كان للإنسان وجود سابق في عالم آخر غير هذه الأرض ؟
و كيف وجد عليها ؟ هل وجد أول ما وجد على صورته الحالية أو على غيرها ؟
و متى بدأ ظهوره
على الأرض ؟ و ما هي العناصر التي تألف منها ؟ و من الذي أوجده ؟ و ما هو
الهدف من وجوده ؟ و هل له رسالة خاصة في هذه الدنيا ، أو انه لا رسالة له
إلا أن يصنع نفسه على إرادته و حريته و هواه كما يقول الوجوديون ؟.
و أيضا هل يخرج من الأرض بعد موته ، و يعود ثانية الى الحياة ؟ . . الى غير ذلك من الموضوعات و الخلافات .
ما أعجب الانسان
. . انه يبحث عن نفسه بنفسه ، و ربما هو الكائن الوحيد الذي امتاز بهذا
الوصف . . و مع ذلك قال بعض أفراد الانسان : كان أبوه قردا فتطور ، و ترقى .
و قال آخر : كلا ، ان أباه تولد من عفونة القذارات تماما كما تتولد
الحشرات . . و لا أدري : هل يدلنا هذا القول و ذاك على ان الانسان أنواع و
أقسام : منها قرود ، و منها حشرات في صورة الانسان . . و انه يبتعد عن كمال
اللّه كل البعد كما تبتعد النملة عن حقيقة الانسان و كماله ؟ .
و مهما يكن فإن ما قاله الإمام ( عليه السلام ) هنا عن أصل الانسان هو شرح و تفسير لما جاء في القرآن الكريم . المعنى :
خلق اللّه
سبحانه آدم من جسم و روح ، و لكن بالتدريج لا دفعة واحدة ، كمثل الباني
يبني حجرا على حجر - المثال للتقريب - فخلق أولا جسما بلا روح و أيضا خلق
هذا الجسم على أطوار كما يظهر من قول الإمام ( عليه السلام ) .
و هذه الأطوار أربعة ، و هي :
1 ( ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها ، و عذبها و سبخها تربة ) .
قول الإمام : « جمع سبحانه تربة» صريح في ان آدم لم يكن له عين و لا أثر قبل هذه الأرض ، و قال تعالى : (ان مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)
59 آل عمران. أي لم يكن في هذه الأرض فكان . . فأبونا آدم من تراب ، و نحن
أيضا في لحمنا و دمنا من تراب ، لأن ما نأكله من اللحوم و الحبوب و
الفواكه و الخضار و النبات ، كل ذلك كان في الأصل ماء و ترابا : (هو الذي خلقكم من تراب) 67 غافر.
أما قوله ( عليه السلام ) : (من حزن الأرض و سهلها ، و عذبها و سبخها)
فهو إشارة الى ان الانسان كأمه الأرض يجمع في استعداده و غرائزه بين
المتناقضات و المفارقات كالطيب و الخبيث ، و الأسود و الأبيض ، قال الرسول
الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : « خلق اللّه آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على مثل الأرض ، منهم الأسود و الأبيض و الأحمر ، و ما بين ذلك » .
2 (و سنها بالماء حتى خلصت ، و لاطها بالبلة حتى لزبت) . يشير بهذا الى قوله تعالى : (إذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين) 71 ص .
و قوله في الآية 11 من الصافات : « من طين لازب » .
و تسأل : لماذا لم يخلق اللّه آدم بكلمة « كن » ؟ . و ما هي الحكمة لخلقه من تراب ؟ أليس اللّه على كل شي ء قدير ؟
الجواب :
قال البعض :
أراد سبحانه أن يعلّم الناس الروية و الأناة و عدم الاستعجال في أمورهم . .
أما نحن فنظن انه تعالى أراد أن يعلم الناس انهم في الخلق سواء ، لا فضل
لأبيض على أسود ، كما قال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : كلكم من آدم ، و آدم من تراب . . و ان يعتبروا بقدرة اللّه التي خلقت من المادة الصماء إنسانا عاقلا يفعل الأعاجيب ، و يومى ء الى ذلك قوله تعالى : (أكفرت بالذي خلقك من تراب) 37 الكهف و أيضا أن يستدل الانسان على النشأة الثانية بالأولى كما تشير الآية 5 من سورة الحج : « يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب » . و قال الإمام : « عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، و هو يرى النشأة الأولى »
3 ( فجعل منها صورة ذات أحناء و وصول ، و أعضاء و فصول ) . ضمير (منها) يعود الى التربة ، و المراد بالصورة صورة آدم ، قال سبحانه : (و صوّركم فأحسن صوركم)
64 غافر . و في جسم الانسان أجزاء كالرأس و اليدين و الصدر و الرجلين و
اليها أومأ بكلمة أعضاء ، و فيه أضلاع ، و اليها أشار بالاحناء ، و فيه
مفاصل ،و هي ملتقى العظام و لولاها لعجز الانسان عن الحركة ، و قد عبّر
الإمام عنها بالفصول ، و فيه عصب يشد الأعضاء بعضها الى بعض ، و هي المقصود
من كلمة وصول من الوصل .
4 ( أجمدها حتى استمسكت ، و أصلدها حتى صلصلت ، لوقت معدود ، و أمد معلوم )
. بعد أن صار الماء و التراب طينا جمد و تماسكت أجزاؤه ، و أصبح جسما
واحدا ، يابسا و متينا ، اذا هبّت عليه الريح سمع له صلصلة ، و أسند جمود
الطين و صلصلته الى اللّه ، لأنه هو الذي خلق التراب و الماء ، و مزجهما
حتى صارا طينا .
و بهذه الأطوار الأربعة تم الجسم و كمل ، و مع هذا أبقاه سبحانه بلا روح الى أمد معين ، لأن حكمته تعالى قضت أن يكون لكل أجل كتاب .
( ثم نفخ فيه من روحه
) . اختلفوا في معنى الروح من حيث هي ، و بصرف النظر عن التي نفخها سبحانه
في آدم أو مريم ، فمنهم من قال : ان اللّه سبحانه حجب علمها من العباد ،
فلا ينبغي الحديث عنها بحال لقوله تعالى : (قل الروح من أمر ربي)
85 الإسراء . و قال آخر : هي على هيئة الانسان ، لها رأس و يدان ، و بطن و
رجلان ، و لكنها ليست انسانا و قال ثالث : هي نور لطيف و هواء خفيف .
و للروح في لغة القرآن معان ، منها:
الرحمة : (و لا تيأسوا من روح اللّه) 87 يوسف .
و منها جبريل : (نزل به الروح الأمين) 193 الشعراء .
و منها القرآن : (و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا)52 الشورى .
و القاسم المشترك لمعنى الروح هو كل ما يحيا به الشي ء ماديا و معنويا .
أما المراد
بالروح التي نفخها سبحانه في آدم فهي الحياة . . حتى و لو كان للروح ألف
معنى و معنى ، لأن الحديث في كلام الإمام (عليه السلام ) و في قوله تعالى :
(فإذا سويته و نفخت فيه من روحي) 29 الحجر مساق عن جسد آدم الذي بقي جمادا بلا روح لوقت معدود ، و أمد معلوم . . و مثلها تماما الروح التي نفخها سبحانه في مريم : (فنفخنا فيها من روحنا )91 الأنبياء » أي انه تعالى خلق جنينا في رحم مريم بلا تلقيح. قيل : ان اللّه سبحانه خلق الانسان كي تتجلى فيه قدرته و عظمته .
و معنى هذا انه
تعالى أنشأ الانسان على أكمل وجه جسما و روحا بحيث لا شيء فوق كمال الانسان
من هذه الجهة إلا خالق الانسان . و كفى شاهدا على هذه الحقيقة عظمة محمد (
صلى الله عليه وآله ) سيد الكونين الذي قال : انما أنا بشر . . ان الانسان تماما كالكون في عظمته و أسراره ، كلما اكتشف منه سر خفيت منه أسرار . .
و من أجل
هذا أطلق بعضهم على الكون اسم الانسان الكبير ، و على ابن آدم اسم الانسان
الصغير أو الكون الصغير . . و لهذه التسمية وجه وجيه ، فحتى الآن و على
الرغم من تقدم العلوم التي رفعت الانسان الى القمر لم ينجح العلماء في
التعرف على حقيقة الانسان ، و كل ما فيه من طاقات و أسرار .
. و اذا كانت حقيقة كل شي ء هي ما يحققه ذلك الشي ء فقد حقق الانسان أعجب
من العجب ، و ما سوف يحققه في المستقبل القريب أو البعيد يفوق التصور ، و
يستحيل التنبؤ به .
و بهذا نجد السر لقوله تعالى : (و في أنفسكم أفلا تبصرون) و تدركون ان لهذا الانسان العجيب خالقا أكمل و أعظم ؟.
(
معجونا بطينة الألوان المختلفة ، و الأشياء المؤتلفة ، و الأضداد
المتعادية ،و الاخلاط المتباينة من الحر و البرد ، و البلة و الجمود )
. يشير الإمام (عليه السلام) بهذا الى أن في طبيعة الانسان و مزاجه قوى
عناصر ، منها ما ينسجم بعضها مع بعض كانسجام العلم مع الحلم ، و الصدق مع
الوفاء ، و كأنسجام الجبن مع البخل ،
و الكذب مع
الرياء . . و منها ما يختلف بعضها مع الآخر ، كاختلاف الرضى و الغضب ، و
الضحك و البكاء ، و الحفظ و النسيان ، و غير ذلك . . و كلها لخير الانسان و
صالحه ، و بقائه و استمراره ، و لو نقصت منه صفة واحدة لاختل توازن
الانسان ، و لم ينتفع بشي ء . . و نضرب لذلك مثلا واحدا :
لو لا النسيان
لتراكمت الهموم على الانسان ، و لم يستمتع بشي ء ، و لأنتهت حياته في أمد
قصير . و لو لا الحفظ لانسد باب العلم بشتى أنواعه ، بل و لم يهتد الانسان
الى أمه و أبيه ، و صاحبته و بنيه ، و إذا خرج من بيته استحال ان يعود اليه
.
و هكذا سائر الصفات المتباعدة منها و المتقاربة . . و كلها تجري على نظام مشترك ،
و قدر جامع ، و ان دل هذا على شي ء فإنما يدل على وحدة الخالق و المدبر الذي لا إله إلا هو : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً